أسدُ الله وسيد الشهداء
إسمه ولقبه
حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة وكنيته أبى عمارة
نشأته
نشأ حمزة فى بيت سيد أشراف قريش، أبوه عبد المطلب بن هاشم وأمه هى هالة بنت أهيب بن عبد مناف ابن هرة بن كلاب بن مرة، وحمزة هو عم الرسول صلى الله عليه وسلم وأخوه فى الرضاعة وأقرب أعمامه إلى قلبه
إسلامه
كان حمزة رضى الله عنه رجلا راميا وكان يخرج من الحرم المكي فيصطاد فإذا رجع مر بمجلس قريش وكانوا يجلسون عند الصفا والمروة فيمر بهم فيقول رميت كذا وكذا ثم ينطلق إلى منزله، فأقبل من رميه ذات مرة فلقيته امرأة كانت خادمة لعبد الله بن جُدْعان فقالت له:" يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمداً آنفا، من أبى الحكم بن هشام.. وجده جالسا، فآذاه وسبَّه، وبلغ منه ما يكره" فقال: هل رآه أحد ؟ قالت إى والله لقد رآه أناس . فأقبل حتى انتهى إلى مجلس عند الصفا و المروة وقوم جلوس وفيهم أبو جهل فاتكأ على قوسه ثم جمع قوته وأمسك بالقوس وضرب به بين أذنى أبو جهل ثم قال: " خذها بالقوس وأخرى بالسيف أشهد ألا إله إلا الله وأنه محمداً رسول الله صلى الله عيه وسلم"، وتنزل عليهم كلمات حمزة كالصاعقة، فلم يصدقوا أن أعز فرسان قريش وأقواهم شكيمة يدخل فى دين محمد، وعجب حمزة مما فعله وكيف تخلى فى لحظة عن دين آبائه وأجداده، ويروى حمزة :".. ثم أدركنى الندم على فراق دين آبائى و قومى.. وبتُّ من الشك فى أمر عظيم، لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة، وتضرعت إلى الله أن يشرح صدرى للحق، ويُذهب عنى الريب، فاستجاب الله لى وملأ قلبى يقينا وغدوت "إلى رسول الله صلى الله عليه سلم فأخبرته بما كان من أمري، فدعا الله أن يثبت قلبى على دينه
جهاد حمزة
وهكذا أسلم حمزة إسلام اليقين، ومنذ أسلم حمزة نذر كل عافيته وبأسه وحياته لله ولدينه حتى خلع النبى عليه هذا اللقب العظيم " أسد الله، وأسد رسوله" وأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء العدو، كان أميرها حمزة، وأول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه سلم لأحد من المسلمين، كانت لحمزة، ويوم التقى الجمعان فى غزوة "بدر"، كان أسد الله وأسد رسوله هناك يصنع الأعاجيب، وعادت فلول قريش من بدر إلى مكة تتعثر فى هزيمتها وخيبتها، وما كانت قريش للتجرع هذه الهزيمة المنكرة فى سلام.. فراحت تعد عدتها لتثأر لنفسها ولشرفها ولقتلاها وصممت قريش على الحرب، وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها ومعها حلفاؤها من قبائل العرب، بقيادة أبى سفيان مرة أخرى، وكان زعماء قريش يهدفون بمعركتهم الجديدة هذه إلى رجلين اثنين: الرسول عليه الصلاة والسلام وحمزة بن عبد المطلب، وقد وكلوا لقتل حمزة عبد حبشى ووعدوه بثمن غالى وعظيم هو حريته، وكان هذا الرجل هو "وَحْشِىّ" عبداً لجُبير بن مُطعم، وكان عم جبير قد لقى مصرعه يوم بدر فقال له جبير:" اخرج مع الناس، وإن أنت قتلت حمزة فأنت عتيق" ثم أحالوه إلى هند بنت عتبة التى كانت فقدت فى بدر أباها وعمها وأخاها وابنها.. وقيل لها إن حمزة هو الذى قتل بعض هؤلاء، وأجهز على البعض الآخر، وقد وعدت وحشى بكل حليها وقلائدها الذهبية إن هو قتل حمزة
أحد وشهادة أسد الله
جاءت غزوة أحد والتقى الجمعان، وتوسط حمزة أرض الموت والقتال، مرتديا لباس الحرب وعلى صدره ريشة النعام التى تعود أن يزين بها صدره فى القتال، ورأى حمزة ما حدث لجيش المسلمين من تحول النصر إلى هزيمة بسبب تخلى الرماة عن مواقعهم، رأى هذا فضاعف قوته ونشاطه وبلاءه، وأخذ يضرب عن يمينه وعن شماله، وبين يديه ومن خلفه، و وحشى يتحين الفرصة ليوجه نحوه ضربته، ويروى وحشى :".. وكنت رجلا حبشيا، أقذف بالحربة قذف الحبشة، فقلما أخطئ بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة و أتبصره حتى رأيته فى عرض الناس مثل الجمل الأورق يهُدُّ بسيفه هَدًّا، ما يقف أمامه شئ، فوالله إنى لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة لأتقَحَّمَهُ أو ليدنو منى، إذ تقدمنى إليه "سِباعُ بن عبد العُزى"، فلما رآه حمزة صاح به: هلم إلى يا ابن مُقَطِّعَة البظور، ثم ضربه ضربة فما أخطأ رأسه، وعندئذ هززت حربتى، حتى إذا رضيت منها دفعتها فوقعت فى ثنته حتى خرجت من بين رجليه .. ونهض نحوى، فغلب على أمره ثم مات، وأتيته فأخذت حربتى، ثم رجعت إلى المعسكر فقعدت فيه، إذا لم يكن فيه حاجة فقد قتلته لأُعتَق.. فلما قدمت مكة هربت إلى الطائف فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا فقلت الحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد فوالله إنى لفى ذلك من همى إذ قال لى رجل ويحك إنه والله ما يقتل أحداً من الناس دخل فى دينه - أى الرسول صلى الله عليه وسلم فلما قال لى ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فشهدت بشهادة الحق قال: أوحشى ؟ قلت نعم يا رسول الله قال أقعد فحدثنى كيف قتلت حمزة قال فحدثته فلما فرغت من حديثى قال " ويحك غيب عنى وجهك، قال فكنت أتنكب رسول الله حيث كان لئلا يرانى حتى قبضه الله، فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة خرجت معهم بحربتى التى قتلت بها حمزة فلما التقى الناس نظرت إلى مسيلمة وفى يده السيف وتمكنت منه فدفعت عليه حربتى فوقعت فيه وأراده أنصارى فشد عليه فضربه بالسيف فربك أعلم أينما قتلته فإن أنا قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله "[ يقصد حمزة ] وقتلت شر الناس [ يقصد مسيلمة ]
ما بعد الشهادة
هكذا سقط أسد الله وأسد رسوله، شهيدا مجيدا، ولم يكتف أعداؤه بمقتله بل مثلوا بجسده فإنه عندما بحث الصحابة ومعهم الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم عن حمزة وجدوه قد بقر بطنه واحتمل وحشى كبده إلى هند في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر، ومن عجب أن هند بنت عتبة الذي صرعه المسلمون ببدر وزوجه أبي سفيان قائد جيش الشرك والوثنية فى بدر مضغت كبد حمزة راجية أن تشفى تلك الحماقة حقدها وغلهّا ولكن الكبد استعصت على أنيابها وأعجزتها أن تسيغها فأخرجتها من فمها، والرسول صلى الله عليه وسلم لما نظر فوجد أن عمه حمزة قد مثلوا به فوجم وضغط على أسنانه فما كان يتصور قط أن يهبط الخلق إلى هذه الوحشية البشعة ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم :" لن أصاب بمثلك أبداً وما وقفت موقفا قط أغيظ إلىّ موقفي هذا" ثم قال :" والله لئن أظفرا الله بهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب .. " لكن الله العادل علم نبيه صلى الله عليه وسلم درسا آخر في العدل حتى مع الأعداء والرحمة حتى ولو كانت مع المشركين فقال تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} وفي لحظات الوداع هذه لم يجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تحية يودّعه بها خيرا من أن يصلي عليه بعدد شهداء المعركة جميعا، فلقد حملوا جثمان حمزة إلى مكان الصلاة في أرض المعركة فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتوا بشهيد ثانى وترك حمزة مكانه ثم جئ بشهيد ثالث فوضع إلى جوار حمزة وصلى عليهما الرسول وجئ بالشهداء شهيد بعد شهيد والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي على كل منهم وعلى حمزة معه حتى صلى على عمه يومئذ سبعين صلاة، وينصرف الرسول بعد المعركة إلى بيته، فيسمع فى طريقه نساء بنى عبد الأشهل يبكين شهداءهن، فيقول عليه الصلاة والسلام من فرط حنانه وحبه :"لكن حمزة لا بواكى له" ويسمعها سعد بن معاذ رضى الله عنه فيظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطيب نفساً إذا بكت النساء عمه، فيسرع إلى نساء بنى الأشهل ويأمرهن أن يبكين حمزة، فيفعلن ولا يكاد الرسول يسمع بكاءهن حتى يخرج إليهن ويقول :"ما إلى هذا قصدت، ارجعن يرحمكن الله، فلا بكاء بعد اليوم". ومن المعروف أن كلا من أبوسفيان وهند ووحشى أسلموا وحَسُن إسلامهم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليستطيع أن ينظر فى وجه هند أو وحشى حزنا على ما حدث لعمه وأخيه فى الرضاعة وحبيبه، حمزة
رثاء الصحابة حمزة
لقد ذهب أصحاب رسول الله يتبارون فى رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظمى، فقال حسان بن ثابت فى قصيدة طويلة له
دع عنك داراً عفا رَسْمُها وَابكِ على حمزة ذى النائل
اللابس الخيل إذا أحجمت كالليث فى غابته الباسل
أبيض فى الذروة من هاشم لم يمر دون الحق بالباطل
مال شهيدا بين أسيافكم شلت يدا وحشى من قاتل
وقال عبد الله بن رواحة
بكت عينى وحق لها بكاها وما يغنى البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى، لك الأركان هدت وأنت الماجد البر الوصول
ورثته صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخت حمزة، على أن خير رثاء عطَّر ذكراه كانت كلمات الرسول له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال:" رحمة الله "عليك، فإنك كنت- ماعلمت- وصولا للرحم، فعولا للخير
أرواح طاهرة
هكذا رحل أسد الله عن الدنيا ليس شهيداً فحسب بل سيداً للشهداء، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقبلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء فى الجنة نرزق لئلا ينكصوا عند الحرب ولا يزهدوا فى الجهاد قال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزلت { ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً } وقد سألهم الله عز وجل : ألكم حاجة ؟ هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا أى شئ نشتهى ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب ترد أرواحنا فى أجسادنا حتى نقتل فى سبيلك مرة "أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا
أثر الحياة فى الجسد الطاهر
بعد أربعين سنة- ويقال ستة وأربعين سنة- من غزوة أحد واستشهاد أسد الله حمزة بن عبد المطلب، وفى خلافة معاوية بن أبى سفيان، انفجرت عين على قبور شهداء أحد فأُخرِجوا منها لتنقل أجسادهم الطاهرة إلى البقيع، فأصابت مجرفة من الحديد قدم حمزة الطاهرة فإذا الدماء تنبعث منها
إسمه ولقبه
حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة وكنيته أبى عمارة
نشأته
نشأ حمزة فى بيت سيد أشراف قريش، أبوه عبد المطلب بن هاشم وأمه هى هالة بنت أهيب بن عبد مناف ابن هرة بن كلاب بن مرة، وحمزة هو عم الرسول صلى الله عليه وسلم وأخوه فى الرضاعة وأقرب أعمامه إلى قلبه
إسلامه
كان حمزة رضى الله عنه رجلا راميا وكان يخرج من الحرم المكي فيصطاد فإذا رجع مر بمجلس قريش وكانوا يجلسون عند الصفا والمروة فيمر بهم فيقول رميت كذا وكذا ثم ينطلق إلى منزله، فأقبل من رميه ذات مرة فلقيته امرأة كانت خادمة لعبد الله بن جُدْعان فقالت له:" يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمداً آنفا، من أبى الحكم بن هشام.. وجده جالسا، فآذاه وسبَّه، وبلغ منه ما يكره" فقال: هل رآه أحد ؟ قالت إى والله لقد رآه أناس . فأقبل حتى انتهى إلى مجلس عند الصفا و المروة وقوم جلوس وفيهم أبو جهل فاتكأ على قوسه ثم جمع قوته وأمسك بالقوس وضرب به بين أذنى أبو جهل ثم قال: " خذها بالقوس وأخرى بالسيف أشهد ألا إله إلا الله وأنه محمداً رسول الله صلى الله عيه وسلم"، وتنزل عليهم كلمات حمزة كالصاعقة، فلم يصدقوا أن أعز فرسان قريش وأقواهم شكيمة يدخل فى دين محمد، وعجب حمزة مما فعله وكيف تخلى فى لحظة عن دين آبائه وأجداده، ويروى حمزة :".. ثم أدركنى الندم على فراق دين آبائى و قومى.. وبتُّ من الشك فى أمر عظيم، لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة، وتضرعت إلى الله أن يشرح صدرى للحق، ويُذهب عنى الريب، فاستجاب الله لى وملأ قلبى يقينا وغدوت "إلى رسول الله صلى الله عليه سلم فأخبرته بما كان من أمري، فدعا الله أن يثبت قلبى على دينه
جهاد حمزة
وهكذا أسلم حمزة إسلام اليقين، ومنذ أسلم حمزة نذر كل عافيته وبأسه وحياته لله ولدينه حتى خلع النبى عليه هذا اللقب العظيم " أسد الله، وأسد رسوله" وأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء العدو، كان أميرها حمزة، وأول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه سلم لأحد من المسلمين، كانت لحمزة، ويوم التقى الجمعان فى غزوة "بدر"، كان أسد الله وأسد رسوله هناك يصنع الأعاجيب، وعادت فلول قريش من بدر إلى مكة تتعثر فى هزيمتها وخيبتها، وما كانت قريش للتجرع هذه الهزيمة المنكرة فى سلام.. فراحت تعد عدتها لتثأر لنفسها ولشرفها ولقتلاها وصممت قريش على الحرب، وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها ومعها حلفاؤها من قبائل العرب، بقيادة أبى سفيان مرة أخرى، وكان زعماء قريش يهدفون بمعركتهم الجديدة هذه إلى رجلين اثنين: الرسول عليه الصلاة والسلام وحمزة بن عبد المطلب، وقد وكلوا لقتل حمزة عبد حبشى ووعدوه بثمن غالى وعظيم هو حريته، وكان هذا الرجل هو "وَحْشِىّ" عبداً لجُبير بن مُطعم، وكان عم جبير قد لقى مصرعه يوم بدر فقال له جبير:" اخرج مع الناس، وإن أنت قتلت حمزة فأنت عتيق" ثم أحالوه إلى هند بنت عتبة التى كانت فقدت فى بدر أباها وعمها وأخاها وابنها.. وقيل لها إن حمزة هو الذى قتل بعض هؤلاء، وأجهز على البعض الآخر، وقد وعدت وحشى بكل حليها وقلائدها الذهبية إن هو قتل حمزة
أحد وشهادة أسد الله
جاءت غزوة أحد والتقى الجمعان، وتوسط حمزة أرض الموت والقتال، مرتديا لباس الحرب وعلى صدره ريشة النعام التى تعود أن يزين بها صدره فى القتال، ورأى حمزة ما حدث لجيش المسلمين من تحول النصر إلى هزيمة بسبب تخلى الرماة عن مواقعهم، رأى هذا فضاعف قوته ونشاطه وبلاءه، وأخذ يضرب عن يمينه وعن شماله، وبين يديه ومن خلفه، و وحشى يتحين الفرصة ليوجه نحوه ضربته، ويروى وحشى :".. وكنت رجلا حبشيا، أقذف بالحربة قذف الحبشة، فقلما أخطئ بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة و أتبصره حتى رأيته فى عرض الناس مثل الجمل الأورق يهُدُّ بسيفه هَدًّا، ما يقف أمامه شئ، فوالله إنى لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة لأتقَحَّمَهُ أو ليدنو منى، إذ تقدمنى إليه "سِباعُ بن عبد العُزى"، فلما رآه حمزة صاح به: هلم إلى يا ابن مُقَطِّعَة البظور، ثم ضربه ضربة فما أخطأ رأسه، وعندئذ هززت حربتى، حتى إذا رضيت منها دفعتها فوقعت فى ثنته حتى خرجت من بين رجليه .. ونهض نحوى، فغلب على أمره ثم مات، وأتيته فأخذت حربتى، ثم رجعت إلى المعسكر فقعدت فيه، إذا لم يكن فيه حاجة فقد قتلته لأُعتَق.. فلما قدمت مكة هربت إلى الطائف فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا فقلت الحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد فوالله إنى لفى ذلك من همى إذ قال لى رجل ويحك إنه والله ما يقتل أحداً من الناس دخل فى دينه - أى الرسول صلى الله عليه وسلم فلما قال لى ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فشهدت بشهادة الحق قال: أوحشى ؟ قلت نعم يا رسول الله قال أقعد فحدثنى كيف قتلت حمزة قال فحدثته فلما فرغت من حديثى قال " ويحك غيب عنى وجهك، قال فكنت أتنكب رسول الله حيث كان لئلا يرانى حتى قبضه الله، فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة خرجت معهم بحربتى التى قتلت بها حمزة فلما التقى الناس نظرت إلى مسيلمة وفى يده السيف وتمكنت منه فدفعت عليه حربتى فوقعت فيه وأراده أنصارى فشد عليه فضربه بالسيف فربك أعلم أينما قتلته فإن أنا قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله "[ يقصد حمزة ] وقتلت شر الناس [ يقصد مسيلمة ]
ما بعد الشهادة
هكذا سقط أسد الله وأسد رسوله، شهيدا مجيدا، ولم يكتف أعداؤه بمقتله بل مثلوا بجسده فإنه عندما بحث الصحابة ومعهم الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم عن حمزة وجدوه قد بقر بطنه واحتمل وحشى كبده إلى هند في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر، ومن عجب أن هند بنت عتبة الذي صرعه المسلمون ببدر وزوجه أبي سفيان قائد جيش الشرك والوثنية فى بدر مضغت كبد حمزة راجية أن تشفى تلك الحماقة حقدها وغلهّا ولكن الكبد استعصت على أنيابها وأعجزتها أن تسيغها فأخرجتها من فمها، والرسول صلى الله عليه وسلم لما نظر فوجد أن عمه حمزة قد مثلوا به فوجم وضغط على أسنانه فما كان يتصور قط أن يهبط الخلق إلى هذه الوحشية البشعة ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم :" لن أصاب بمثلك أبداً وما وقفت موقفا قط أغيظ إلىّ موقفي هذا" ثم قال :" والله لئن أظفرا الله بهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب .. " لكن الله العادل علم نبيه صلى الله عليه وسلم درسا آخر في العدل حتى مع الأعداء والرحمة حتى ولو كانت مع المشركين فقال تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} وفي لحظات الوداع هذه لم يجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تحية يودّعه بها خيرا من أن يصلي عليه بعدد شهداء المعركة جميعا، فلقد حملوا جثمان حمزة إلى مكان الصلاة في أرض المعركة فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتوا بشهيد ثانى وترك حمزة مكانه ثم جئ بشهيد ثالث فوضع إلى جوار حمزة وصلى عليهما الرسول وجئ بالشهداء شهيد بعد شهيد والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي على كل منهم وعلى حمزة معه حتى صلى على عمه يومئذ سبعين صلاة، وينصرف الرسول بعد المعركة إلى بيته، فيسمع فى طريقه نساء بنى عبد الأشهل يبكين شهداءهن، فيقول عليه الصلاة والسلام من فرط حنانه وحبه :"لكن حمزة لا بواكى له" ويسمعها سعد بن معاذ رضى الله عنه فيظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطيب نفساً إذا بكت النساء عمه، فيسرع إلى نساء بنى الأشهل ويأمرهن أن يبكين حمزة، فيفعلن ولا يكاد الرسول يسمع بكاءهن حتى يخرج إليهن ويقول :"ما إلى هذا قصدت، ارجعن يرحمكن الله، فلا بكاء بعد اليوم". ومن المعروف أن كلا من أبوسفيان وهند ووحشى أسلموا وحَسُن إسلامهم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليستطيع أن ينظر فى وجه هند أو وحشى حزنا على ما حدث لعمه وأخيه فى الرضاعة وحبيبه، حمزة
رثاء الصحابة حمزة
لقد ذهب أصحاب رسول الله يتبارون فى رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظمى، فقال حسان بن ثابت فى قصيدة طويلة له
دع عنك داراً عفا رَسْمُها وَابكِ على حمزة ذى النائل
اللابس الخيل إذا أحجمت كالليث فى غابته الباسل
أبيض فى الذروة من هاشم لم يمر دون الحق بالباطل
مال شهيدا بين أسيافكم شلت يدا وحشى من قاتل
وقال عبد الله بن رواحة
بكت عينى وحق لها بكاها وما يغنى البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى، لك الأركان هدت وأنت الماجد البر الوصول
ورثته صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخت حمزة، على أن خير رثاء عطَّر ذكراه كانت كلمات الرسول له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال:" رحمة الله "عليك، فإنك كنت- ماعلمت- وصولا للرحم، فعولا للخير
أرواح طاهرة
هكذا رحل أسد الله عن الدنيا ليس شهيداً فحسب بل سيداً للشهداء، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم :" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقبلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء فى الجنة نرزق لئلا ينكصوا عند الحرب ولا يزهدوا فى الجهاد قال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزلت { ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً } وقد سألهم الله عز وجل : ألكم حاجة ؟ هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا أى شئ نشتهى ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب ترد أرواحنا فى أجسادنا حتى نقتل فى سبيلك مرة "أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا
أثر الحياة فى الجسد الطاهر
بعد أربعين سنة- ويقال ستة وأربعين سنة- من غزوة أحد واستشهاد أسد الله حمزة بن عبد المطلب، وفى خلافة معاوية بن أبى سفيان، انفجرت عين على قبور شهداء أحد فأُخرِجوا منها لتنقل أجسادهم الطاهرة إلى البقيع، فأصابت مجرفة من الحديد قدم حمزة الطاهرة فإذا الدماء تنبعث منها